بين طلب الدنيا والآخرة

بين طلب الدنيا والآخرة

هل يتنافى طلبهما؟

لا يتنافى طلب الدنيا مع طلب الآخرة ولا يتعارض ولا يتناقض بدليل قوله تعالى حكاية عن المؤمنين (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201]
وكثير من كبار الصحابة عمل في التجارة واشتغل في الأسواق وكان من كبار الأثرياء وهذا نموذج لأحدهم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيْ أَخِي أَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالا، فَانْظُرْ شَطْرَ مَالِي فَخُذْهُ، وَتَحْتِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيُّهُمَا أَعْجَبُ إِلَيْكَ حَتَّى أُطَلِّقَهَا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، فَدَلُّوهُ عَلَى السُّوق، فَذَهَبَ فَاشْتَرَى وَبَاعَ وَرَبِحَ فَجَاءَ بِشَيْءٍ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ" وفي رواية: "ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ أي داوم الذّهاب إلى السوق للتجارة ثُمَّ لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ فَجَاءَ وَعَلَيْهِ رَدْعُ أي أثر زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَهْيَمْ أي: ما شأنك؟) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَقَالَ: (مَا أَصْدَقْتَهَا؟) قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ)، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لَرَجَوْتُ أَنْ أُصِيبَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً».رواه أحمد
فعبد الرحمن بن عوف لم يعمل بمقدار حاجته وفقط بل داوم الذهاب للسوق حتى بلغ هذا الحد من الثراء.. النقطة الجوهرية أن المال والدنيا مهما كثرت تكون في يدك لا في قلبك ومن يرى صدقات عبد الرحمن بن عوف يدرك أن هذا طلب الدنيا لم يتمكن من قلبه قط فلقد فقد تصدق ليوم العسرة بأربعة آلاف دينار وكان نصف ماله وكلما زاد ماله زاد مقدار إنفاقه، فبعد أن تصدق بأربعة آلاف صار يتصدق بأربعين الف دينار ثم حمل على خمسمائة فرس ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة وكل ذلك في سبيل الله وأعتق في يومٍ واحدٍ ثلاثين عبداً. وقدِمَت إحدى قوافله التجارية إلى المدينة فكان لأهلها يومئذ رجّة وإذ أدركت السيدة عائشة السبب قالت: أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كأني بعبد الرحمن بن عوف على الصراط يميل مرة ويستقيم أخرى حتى يفلت ولم يكد، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فقال هي وما عليها صدقة وكانت خمسمائة راحلة أو سبعمائة.

هل طلب الدنيا مأمور به؟

لم يخلقنا الله عز وجل في هذه الدنيا عبثا ولا حملنا بالأمانة والدنيا خارج هذه المعادلة ولا خلقنا من روح وجسد دون حكمة فنحن مطالبون بإعمار هذه الدنيا (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61]
(واستعمركم فيها)، يقول: وجعلكم عُمَّارًا فيها
 (كما أمر الله تعالى عبادَه بأداء العبادات والشعائرِ التعبُّدية، أمرهم في ذات الوقت بالسعيِ والكَسْبِ؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]
، فقد جاء ذكرُ الانتشار في الأرض والسعي فيها من أجلِ الرزق محصورًا بين قضاء الصلاة، وذِكْر الله كثيرًا، وهذا توجيهٌ من الله تعالى لعباده نحو تحرِّي الحلال، ومراقبة الله، وذكرِه أثناء العمل، وفي كل الأحوال؛ لأنه دليل الفلاحِ في الدنيا والآخرة، وكذلك فيه دليلٌ وإشارة إلى هذا التوازن الذي ينبغي أن يكون في حياة المسلمِ بين عملِ الدنيا وعمل الآخرة، وكلاهما - إن تمَّ إتقانهما - يوصلان إلى الفوز والفلاح.وبخصوص عبادةِ الحجِّ؛ قال الله سبحانه: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ [البقرة: 198]
، قال المفسِّرون: الفضلُ: هو البيع والشراء، وغير ذلك من أمورِ الدنيا التي أحلَّها الله تعالى، فتدبَّر رحمني الله وإيَّاك إلى الحرص على التوازن حتى عند تأديةِ المشاعر والنُّسك، ما أجمل وما أعدل ديننا الحنيف!
أمَّا الصيام فقال الله تعالى عنه: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ [البقرة: 187]
، وقال سبحانه في نفس الآية: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187]
، فمُعاشرةُ النساء والأكلُ والشرب من أعمالِ الدنيا التي يمارسها المسلمُ عقبَ عبادة الصيام، وهو ليس قصرًا وحصرًا، بل إنها إشارةٌ إلى أعمال الدنيا التي تلِي تلك العبادة؛ إذ لا رهبانيَّة في الإسلام، ولا صيام أبَد الدَّهر، ولقد ذمَّ الله تعالى مَن قبلنا؛ لِمَيلِهم عن الوسطيَّة في العبادة؛ فقال تعالى: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [الحديد: 27].
ولقد فرض الله تعالى الزكاةَ على القادرين من أجل إيجادِ التوازن الحياتي والمعيشِي بين الناس؛ حتى لا يكون المالُ في يد فئةٍ قليلة من الناس، بل يتم تداولُه بين هذا وذاك، وهذا لا يُلغي التفاوتَ والقدرات بين الناس، ولكن يوجِد تقاربًا بينهم؛ قال تعالى: ﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾ [الحشر: 7]
والله تعالى في قرآنه الكريم وجَّهَنا توجيهًا عامًّا نحو العمل والسعي على الكَسْب، مع مراقبة الله تعالى في هذا السعي وذاك الكسب؛ لأن الإنسان لا بد أن يعود إلى ربِّه، ليحاسبه عما اكتسبه في هذه الحياة الدنيا؛ ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]
(هل تتعارض الدنيا مع الدين..كمال عبد المنعم)

كيف تطلب ما عند الله والدار الآخرة؟

(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:77]
لعل هذه الآية هي حجر الزاوية في كيفية طلب ما عند الله والدار الآخرة ونحن نعيش في هذه الدنيا بغرائزها وطباعها يقول القرطبي: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة أي اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة ; فإن من حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي.
قوله تعالى: ولا تنس نصيبك من الدنيا اختلف فيه ; فقال ابن عباس والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك ; إذ الآخرة إنما يعمل لها، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها، فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة وقال الحسن وقتادة: معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ونظرك لعاقبة دنياك، فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة ; قاله ابن عطية.
قلت: وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا وعن الحسن: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغ. وقال مالك: هو الأكل والشرب بلا سرف. وقيل: أراد بنصيبه الكفن، فهذا وعظ متصل ; كأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن ونحو هذا قول الشاعر:
نصيبك مما تجمع [ من ] الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط
وقال آخر:
وهي القناعة لا تبغي بها بدلا ****فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ****هل راح منها بغير القطن والكفن
قال ابن العربي: وأبدع ما فيه عندي قول قتادة: ولا تنس نصيبك الحلال، فهو نصيبك من الدنيا ويا ما أحسن هذا وأحسن كما أحسن الله إليك أي أطع الله واعبده كما أنعم عليك ومنه الحديث: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه وقيل: هو أمر بصلة المساكين قال ابن العربي: فيه أقوال كثيرة جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله وقال مالك: الأكل والشرب من غير سرف قال ابن العربي: أرى مالكا أراد الرد على الغالين في العبادة والتقشف ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء، ويشرب العسل، ويستعمل الشواء، ويشرب الماء البارد.
 

كيف تطلب الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا؟

إذا كانت الآخرة هي المستقبل الحتمي والمصير النهائي والخلود الأبدي فإما نعيم لا يشوبه حزن أو ألم وإما جحيم تنسي الغمسة الواحدة فيه كل المتع التي حصلها الإنسان في حياته الدنيا فكأنما لم يذق نعيما قط.
لكن الحقيقة المؤكدة أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليعيش ويعمر هذه الدنيا وجعل الرغبة في السعادة والرضا وراحة البال أمور فطرية يسعى الإنسان لها ويبحث عنها أو كما قال بعض العارفين أن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة إنها تلك السعادة التي لا يعرفها من لم يتذوقها وهي موجودة في هذه الحياة الدنيا.
نعم الدنيا هي مزرعة الآخرة والمؤمن فيها كالغريب أو عابر السبيل ولكن هذا لا يمنع العامل في مزرعة الآخرة أن يستمتع بعمله ويشعر بالرضا والإشباع النفسي والجسدي والغريب وعابر السبيل لا يحمل إلا قليل من الأمتعة ولكنها من الممكن أن تكون أكثر من كافية بكيفيتها وليست بكثرتها وكمها.
 معادلة صعبة هي أن تستمتع بهذه الحياة الدنيا وفي الوقت ذاته تطلب الأخرة بصدق وتسعى لها سعيها لكنها يسيرة لمن وفقه الله تعالى لسبر طبيعة هذه الحياة لذلك نجد دعاء المؤمنين (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201]
وهي دعوى جميع العقلاء على مدار الزمان (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين) [القصص:77]
فكيف نستطيع تحقيق هذه المعادلة؟

1- اتباع الشرع وهدي النبي صلى الله عليه وسلم

الله سبحانه وتعالى هو من خلق الإنسان وأودع فيه مشاعره وأحاسيسه وأفكاره وحاجاته النفسية والعاطفية والجسدية وهو سبحانه من يعلم خباياه ونقاط ضعفه وقوته ومدى قدرته على التحمل ومدى حاجته للتخفيف (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14]
جاء في تفسير القرطبى تعليقا على هذه الآية (ألا يعلم من خلق يعني ألا يعلم السر من خلق السر. يقول أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد. وقال أهل المعاني: إن شئت جعلت " من " اسما للخالق جل وعز ; ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه. وإن شئت جعلته اسما للمخلوق، والمعنى: ألا يعلم الله من خلق. ولا بد أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه).هذا العلم الإلهي فيما ينفع الإنسان في دنياه وآخرته تجسد في الأحكام الشرعية التي جاءت في القرآ ن الكريم وفي السنة النبوية التي شرحت وفصلت وطبقت بشكل عملى هذه الأحكام الشرعية ومن ثم فإن من يلتزم هذه الأحكام يستطيع أن يستمتع بحياته الدنيا ويحصل على نصيبا كافيا ومشبعا منها وفي الوقت ذاته تبقى غايته النهائية التي يعمل لأجلها هي تلك الحياة الآخرة الخالدة.

2- التوازن النفسي والعاطفي

من أراد الآخرة وأراد نصيبه من الدنيا في الوقت ذاته فعليه أن يلتزم بقيمة التوازن في حياته كلها (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67]
إنهم عباد الرحمن الذين يفعلون قيمة التوازن في الحياة فكما هم في الامور المادية لا يسرفون ولا يقترون فهم كذلك في حياتهم كلها لا يسرفون ولا يقترون لا تصيبهم نوبات من الفرح والحماس غير المبرر (إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص:76]
ولا تعتريهم نوبات من الحزن والاكتئاب والهم والغم وقد علموا أن لهم خالقا رازقا مدبرا حكيما (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40]
من أراد الدنيا والآخرة عليه أن يتسم بالثبات الانفعالي والتوازن النفسي وهو أمر سهل لمن يتبع تعليمات الشرع ويقتدي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم
وكما يتسم هذا الإنسان بالتوازن الانفعالي فهم يتسم ايضا بالتوازن العاطفي فهو يحب ويتفاعل ويبذل جهده في نجاح علاقاته ولكنه وفي الوقت ذاته يستطيع أن يبقى عاطفته دائما في دائرة الاتزان والتوازن بحث لا تطغى على أولويات واجباته الأكثر أهمية الأسود بن يزيد، قال: "سُئلت عائشة -رضى الله عنها- ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ما يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله"، يعني: خدمة أهله، "فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة"

3- إياك والترف

الترف عدو النجاح.. عدو السعادة..عدو التوازن..الترف بكل معانيه وصوره وأشكاله وأنماطه لا يمكن أن يصنع إنسان يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة ولا ينسى نصيبه من الدنيا.
الترف والإسراف استنزاف بكل معنى الكلمة لطاقة الروح قبل طاقة الجسد..المدهش في الأمر أن من يعش حالة الترف يظن بذلك أنه يسعى للمزيد من امتلاك أدوات السعادة والمتعة بينما الحقيقة إن المتعة إن زادت عن حدها فقدت مذاقها المميز الحلو وتحولت لنمط من المرارة التي قد تصل لحد العلقم ويتحول المسرف كذلك الظمآن الذي يشرب ماء البحر كي يرتوي وكلما شرب أكثر ظمأ أكثر وأكثر وهذا المترف
هؤلاء المترفون من الملأ الذين يسعى دائما لتكريس مصالحهم الضيقة هم غالبا من يصدون الدعوة إلى الله لأنهم أخلدوا لهذا الترف (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) [سبأ:34]
هؤلاء (الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [المؤمنون:33]
هؤلاء المترفين مؤشر هلاك الأمم (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) [الإسراء:16]
الترف إجرام في حق النفس قبل أن يكون إجرام في حق المجتمع فإن من يحيا حياة الترف لابد له من الانغماس في هذه الحياة الدنيا ومن ثم لا يسعى لبذل جهد للسعي نحو الآخرة وربما كرهها ورفضها لأنه لا يريد أن يخرج من نمط الحياة المنغمس فيه (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116]

4- لا تعط الدنيا أكثر من حجمها

لكي يستطيع الإنسان أن يوازن بين الحياة الدنيا والآخرة فعليه أن يحدد بالضبط ماذا يريد من هذه الحياة الدنيا..ما الذي يكفيه ويشبعه؟ ما المقدار الذي يحقق له حاجاته؟ لكي يستطيع أن يمنح الآخرة ما تستحقه من جهد وبذل وسعي.
مما لاشك فيه أن حاجات الإنسان مختلفة متنوعة وكل إنسان على نفسه بصيرة ومن ثم لا يمكن تعميم حاجات معينة للإنسان كما أو كيفا ولكن كل إنسان لديه مقياس حساس داخل نفسه يجعله يشعر حقيقة بما يحتاجه وما يعد لون من ألوان الترف..ربما يتأثر هذا المقياس بطبيعة التربية التي تلقاها والبيئة التي نشأ فيها وطبيعة المجتمع الذي يعيشه فيقينا تختلف الحاجات ما بين مجتمع الوفرة والرفاه ومجتمعات تعيش تحت خط الفقر بمراحل لكن هناك ضابطين في المسألة:
1ـ صدق الإنسان مع نفسه وهو يحدد حاجاته من الدنيا وتوافق ذلك مع قدراته الفعلية وإلا فإنه يدخل في صراع في حلبة شرسة هي القتال من أجل الدنيا حتى ينتهي أجله ولم يزل الصراع محتدما
2ـ أن تمتلك الأشياء لا أن تتملكك الأشياء بمعنى لابد من النظر لهذه الحاجات الدنيوية باعتبارها مجرد أدوات ووسائل مساعدة لعيش حياة كريمة تعين على عبادة الله عز وجل لا أن تعبد هذه الأشياء (تعس عبد الدينار)
وعلاقة العبودية للأشياء هذه علاقة قلبية بحتة فقد يكون الإنسان بالغ الفقر لكنه عبد للدينار وقد يكون بالغ الثراء ولكنه لا ينظر للدينار إلا كوسيلة للعيش في الدنيا ورفع الدرجات في الآخرة ومن هنا نفهم استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر والكفر كليهما كما روى ذلك النسائي وابن حبان.

5- علق قلبك بالله

لا يمكن للإنسان أن ينجح في تحقيق التوازن بين الدنيا والآخرة ويسعى للآخرة بحق ولا ينسى نصيبه من الدنيا ويضبط حياته وفق هذا المنهج إلا بالاستعانة بالله تعالى وتعلق القلب به سبحانه ومن هنا نقرأ في كل ركعة في صلاتنا (إياك نعبد وإياك نستعين) فالاستعانة بالله تعالى هي ضمان عبادتنا له فعن عبد الله بن عباس: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، قال: إياك نستَعِينُ على طاعتك وعلى أمورنا كله (تفسير الطبري) او كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (يا حي يا قيوم برحمتك استغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) رواه النسائي يقول ابن القيم رحمه الله:
(مِن ههنا خذل مَن خُذل، ووُفِّقَ مَن وُفق، فحجب المخذول عن حقيقته، ونسي نفسه، فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى وعتا، فحقت عليه الشقوة، قال تعالى:
(كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى) وقال: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى)
فأكمل الخلق أكملهم عبودية، وأعظمهم شهودا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين.
ولهذا كان من دعائه: (أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك)، وكان يدعو: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
يعلم أن قلبه بيد الرحمن عز وجل، لا يملك منه شيئا، وأن الله سبحانه يصرفه كما يشاء، كيف وهو يتلو قوله تعالى: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا)
فضرورته إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به، وحسب قربه منه، ومنزلته عنده) طريق الهجرتين
 لذلك فعندما يتعلق القلب بخالقه..برحمته وقدرته فقط وقتها يستطيع الإنسان أن ينجح في الدنيا والآخرة لأنه في كنف الرب الخالق الرازق المدبر الرحمن الرحيم لذلك ينبغي أن يبقى القلب يقظا وهو يتابع حاله مع ربه.