خير من الدنيا وما فيها

خير من الدنيا وما فيها

خير من الدنيا وما فيها

روى الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن أبي هريرة  قال: مرَّ النبي - ﷺ- على قبر دُفِن حديثًا، فقال: (ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتَنَفَّلُون، يزيدهما هذا في عمله أحبُّ إليه من بقية دنياكم)

ففي هذا المثل دليل دامغ على حقارة الدنيا، وكيف أن ما يقضي فيه الناس حياتهم يتنازعون فيه ويتقاتلون عليه، يصبح بلا أي قيمة حين ينتقل المرء إلى الدار الآخرة.

ولم يضرب النبي ﷺ المثل بصلاة الفريضة، بل بنافلة يتهاون بها الناس، فكم من مصلٍ دخل المسجد قبل إقامة الصلاة فصلى ركعتين خفيفتين قبل أن يجلس، ولربما نسى هذا الموقف البسيط، بينما ظل ذهنه مشغولاً بما يظنه عظائم الأمور، لكنه بمجرد ذهابه إلى الآخرة تنقلب الآية تمامًا.

روى الترمذي عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) وفي رواية (لَهُمَا أَحَبُّ إليَّ مِن الدنيا جميعًا)

فما بالنا بثواب صلاة الفريضة نفسها إن كانت نافلتها بهذه المكانة العظيمة؟!

وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  أن النبي ﷺ قال: (لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحبُّ إلي ممّا طلعت عليه الشمس).

قال الإمام ابن العربي رحمه الله: الثواب المترتب على قول هذا الكلام أكثر من ثواب من تصدق بجميع الدنيا (تحفة الأحوذي).

فهذه كلمات قليلة لكن ثوابها العظيم، يجعل قيمتها أثمن من كل كنوز الدنيا، ولا عجب من هذا بالنظر إلى موقف الإنسان في الآخرة، يوم لا ينفع مال ولا كنوز، فالعملة يومها هي الحسنات، وما أغلاها في ذلك اليوم، وما أهونها اليوم في أعين الناس!!

فالعاقل من يدرك هذه الغنيمة الباردة؛ أربع كلمات تجعل الإنسان يحصل على كنز من الحسنات قد يكون سببًا في دخوله الجنة ونجاته من النار.

فهذه اللفتة النبوية الكريمة جديرة بأن تلفت نظر كل إنسان إلى أن يعتني برصيد الآخرة، فإن نعيمها باقٍ أبد الآباد، فالله يقول (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) [النحل: 96]

 فكل ما عند الله باق حتى لو كان شيئا قليلا، وما هو بقليل في الحقيقة.

عن أَبي ذرّ  قَالَ: قَالَ لي رسولُ الله ﷺ: (لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طليقٍ) رواه مسلم.

فالإنسان لكي يفوز في اختبار الدنيا يجب أن يكون كالتاجر الحريص الذي لا يدع فرصة يكسب بها قرشًا إلا وانتهزها، ولا يدع بابا يرى فيه مكسبا له إلا ودخله، فالمؤمن أولى منه بذلك، فحسنة واحدة قد تغير مصير المرء من النار إلى الجنة.

كن ذلك الرجل

قال في "لطائف المعارف":إن غاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة، يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، وأهل الدنيا يُفرِّطون في حياتهم، فتذهب أعمارهم في الغفلة ضياعًا، ومنهم من يقطعها بالمعاصي.

 قيل إن أحد الصالحين مر بجنازة، وكان معه رجل مُسرفٌ على نفسِه، فقال له: ترى ما أمنية هذا الميت؟ فقال الرجل: أن يعود إلى الدنيا ليتوبَ ويُصلحَ الزاد، فقال له: فكن هذا الرجل.

وقال إبراهيم التيمي: مثلتُ نفسي في الجَنَّة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلتُ نفسي في النار آكل من زقُّومها، وأشرب من صديدها وحميمها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفسي، أيَّ شيء تُريدين؟ فقلت لها: فأنت في الأمنية فاعملي"( صفة الصفوة).

فالبصير هو من يعتبر بمصير غيره بدلا من أن يكون هو نفسه مضرب العبرة والعظة لمن بعده، ممن يتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا؛ ليصلحوا الزاد ليوم الميعاد، وقد عرفوا قيمة العمر بعد انقطاعه، ولات حين مناص.