هل قلبك حي؟

هل قلبُك حي

 

كيف حالُك؟ بخير!، عبارة اعتدنا تداولها مع المحيطين للاطمئنان عليهم، وعادة ما يكون الرد: "بخير، الحمد لله"

ولم يفكر أحدنا يومًا هل هو بخير حال حقًا، أم أنه مجرد واهم!!
 
ندور في غفلة الليالي والأيام ولا ندرك أن إشباع حاجاتنا، وجمال هيأتنا، وموفور صحتنا، كل ذلك إلى زوال، وما ينفع المرء منا هو سلامة قلبه؛ هذه المضغة التي يحويها بذات صدره، والتي تتحكم في سائر الجوارح، وتقودها للخير أو الهلاك، للسعادة أو الشقاء، للإدراك أو الغفلة!، لمعية الله أو معية الشيطان..

هذا القلب يحدد مصيرك!

وحده القلب ينظر الله إليه من سائر بدنك.. وبه وحده يتميز العباد عند ربهم فيرتفع قدرهم وذكرهم بين الملائكة، أو يستحقون الطرد من كل رحمة!

هذا القلب الذي أدرك سرّه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وهو يدعو ربه حامدا نعمته الكبرى بهدايته وكفالة رزقه وشفاء مرضه، وإحيائه بعد موتته الصغرى والكبرى، ويطمع أن يغفر له خطيئته يوم الدين ويلحقه بالصالحين الذين يرثون جنة النعيم.. لقد أدرك أن القلب هو طريق الوصول إلى الله ونعيمه الذي لا يفنى.. والنافع الوحيد وسبب النجاة من خزي يومئذ.. يوم القيامة حيث لا ينفع مال أو بنون { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 78-89]

الصالحون سبقوا بقلوبهم


سُئل رسول الله عن أي الناس أفضل، فقال: « كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد » [رواه ابن ماجة].


ولقد سبق الصالحون الأولون بقلوبهم، حتى قال بعض السلف عن أبو بكر الصديق رضي الله عنه "ما فضلكم أبو بكر بكثير صوم ولا صلاة ولكنه شيء وقر في قلبه"، فقد كان ابوبكر الصديق سابقا عن خيار الصحابة بـ"شيء وقر في صدره" وهو إخلاص القلب كاملا لله ورسوله، كما سبق الصحابة من جاء بعدهم بهذا الإخلاص القلبي وزهد الدنيا، وليس بكثرة التعبد.


ثم نرى أحوال التابعين المخلصين ومنهم عبدالله بن المبارك رحمه الله، الذي تعجب أصحابه عن سر شهرته الغامرة بين الناس، وهو ليس أكثرهم صلاة ولا صياما ولا جهادا ولا حجًا؛ فكانوا في إحدى المسيرات معه إلى الشام، حتى انطفأ السراج من البيت الذي نزلوا فيه، فخرج بعضهم يريد إشعاله، حتى جاءوا فوجدوا صاحبهم وقد ابتلت لحيته بالدموع، وقد ذكر القيامة..إنها خشية الله التي فُضل بها عليهم [صفة الصفوة، ابن الجوزي].

 

القلوب تصح وتمرض

القلوب كما نفهم من آيات الذكر الرباني الحكيم، تحيا وتموت، وتصح وتمرض، وتبصر وتعمى، وهي ليست عضو لضخ الدماء في شرايين الجسم فقط، بل هي مركز التفكر والنظر أو الغفلة، يقول الله عن القرآن الكريم: {َيا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [ يونس:57].


وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [ الشعراء:88].


والقلب السليم هو الذي سلم من كل شهوة وشبهة تخالف أمر الله ونهيه، فهو يبغض ما يبغض الله، ويحب ما يحب الله ورسوله، وبذلك فهذا القلب "سلم في محبة الله - مع تحكيمه لرسوله - في خوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والذل له وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق، وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده" [ ابن القيم- اغاثة اللهفان:13].


إن الله لا يرضى إلا أن يأتيه عبده يوم القيامة، بقلب خالص لوجهه، محب، خائف من معاصيه، لائم نفسه وتائب، أما قلوب أهل الشرك المتكبرة القاسية كالصخر، فلا مكان لها إلا النار، يقول الله تعالى:

{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا } [ الأعراف: 179 ].


وقال عن الكافرين{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53] بينما في الآية التالية يأت ذكر المهتدين بقول الحق: { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }[الحج: 54]

 

لماذا "حياة القلوب"؟

يقول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]


إن عمل القلب هو روح العبودية وحياتها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح. [ابن القيم]


وبدون القلب الصالح لن يدخل العبد الجنة ولن يحصل على رضا الله وستكون حياته ومماته سلسلة من السقوط للضنك والعذاب، ولهذا رددها النبي ثلاثا مشيرا إلى قلبه : « التقوى هاهنا » [صحيح الجامع]


وكان النبي أكثر دعائه، وهو العالم بأحوال النفس، فيناجي ربه: « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك »[رواه الترمذي]


والله يدعو إلى إحياء قلوبنا، فيقول: {يَا أَيٌّهَا الَذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم واعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ المَرءِ وقَلبِهِ وأَنَّهُ إلَيهِ تُحشَرُونَ} [الأنفال: 24].


وقد أمرنا الله بالتنافس في عبادته وطاعته والتسابق في تحصيل رضاه وجنته، فبذل المحبون العابدون لله له كل ما يستطيعوا ليسبقوا ويسعدوا ويفوزوا، فبحثوا عن ما يصلح أعمالهم ويزكيها وينميها، فسمعوا قول النبي «ألا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب » [رواه البخاري]، فكان من أشرف العلوم وأعلاها معرفة الله وانشغال القلب به وحده.


فمن أراد النجاة والفلاح فعليه بأعمال القلوب، فلا يوازي أعمال القلوب عمل ولا يدانيها عمل، وبها يصلح عبودية المسلم وأعماله كلها.


ومن هنا كانت فكرة "حياة القلوب" لنسير مع السائرين إلى الله في درب النور، وندفع ترياق الإخلاص لله ورسوله ومتابعتهما لهذه المضغة في صدورنا، فتتقوى وتشرب المحبة ودرجات الإيمان بديلا للأهواء، مهمة لا تبدو مستحيلة رغم واقع الفتن الكبرى، والذي تلتقيه قلوبنا كريشة خفيفة في مهب الريح، فهو الطريق الوحيد السالك للوصول لله ولسعادة الدنيا والآخرة..


وفي هذه السلسلة.. سعينا للاقتراب من كنز أحوال القلوب في القرآن والسنة وأقوال السلف ودمجها بمفردات العصر وواقعه، مستعينا بخبرات كبار العلماء وأبرزهم شيخ الإسلام ابن تيمية وعلامة القلوب ابن القيم رحمه الله.. ونسأل الله القبول والإخلاص والسداد..



كلمات دليلية: