وصف الحياة الدنيا أنها تكاثر في الأموال والأولاد، فهل ألهانا التكاثر؟

وصف الحياة الدنيا أنها تكاثر في الأموال والأولاد، فهل ألهانا التكاثر؟

الأولاد هم أغلى ما لدى الوالدين، فالأمهات يستعذبن المشقة في سبيل راحة أبنائهن، والآباء يكدون ويكدحون من أجل توفير الحياة الرغدة لعيالهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

 وقد يدفع الحرص على ذلك بعض الآباء لمواصلة الليل بالنهار في العمل، والانشغال عن بعض العبادات، إذ تنحصر همومهم حينذاك في رعاية أطفالهم.

كما قال النبي ﷺ: (إن الولد مبخلة مجبنة(، رواه البيهقي وصححه الحاكم في المستدرك، ومعنى قوله "مجبنة" أي أن الولد سبب لجبن الأب فإنه يتقاعد من الجهاد والدفاع عن الإسلام بسبب حب الأولاد والخوف من الموت عنهم. ومعنى قوله "مبخلة" أي أن الولد سبب للبخل بالمال، وقد يؤخر أداء ما امره الله به من حج أو زكاة بسبب خشيته على مستقبل أولاده وادخاره المال لهم.

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) [التغابن 14،15]

قال السعدي: هذا تحذير من الله للمؤمنين، عن الاغترار بالأزواج والأولاد، فإن بعضهم عدو لكم، والعدو هو الذي يريد لك الشر، ووظيفتك الحذر ممن هذه صفته، والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد، التي فيها محذور شرعي ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإن في ذلك، من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم لأن الجزاء من جنس العمل. 

والله سبحانه أخبرنا أن (الْمَالُ وَالْبَنُونَ) هما (زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) لكن (الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) هي (خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف: 46]

، فالله ﷻ يرد على من يحصرون السعادة في الأبناء والأموال فأخبرهم سبحانه أن ذلك مما يتزين به في الدنيا لكنه قد لا ينفعهم في الآخرة، التي لا يفيدهم فيها إلا التزود بالحسنات وأعمال الخير.

وفتنة الأموال ليست أقل خطرا من فتنة الأبناء بل إن النبي ﷺ قال: (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال) صححه الألباني، أي أن تلك الفتنة بالذات سوف تكون الأكثر إضلالاً لأفراد هذه الأمة دون غيرها من الفتن، لذا استوجبت التركيز عليها والتحذير منها على وجه الخصوص.

وفتنة المال والغنى خطرها عظيم لأنها تلهي القلب، وقد تطغي الإنسان صاحب المال كما قال الله (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) [العلق: 6-7]

أي يتجاوز حده ويستكبر إن رأى نفسه غنيا، فحينئذ لا يذكر الآخرة والحساب، وكانت مخاوف النبي ﷺ على أمته تتمحور حول هذه النقطة، فقال:)ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخْشَى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسِطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم) البخاري.

ووجود المال في يد صاحبه ليس هو الخطر، فقد يستغله في وصل أرحامه والانفاق على الفقراء، كما قال ﷺ (نِعم المالُ الصالحُ للمرءِ الصالحِ) رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه بن باز في حاشية بلوغ المرام.

بل المحظور هنا هو تمكن المال من قلب العبد، فعن أبي ذر أن النبي ﷺ قال له: (أفترى قلة المال هو الفقر؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، فقال: إنما الغنى غنى القلب، و الفقر فقر القلب) رواه بن حبان وصححه الألباني.

فطبيعة البشر تحب المال بشدة كما قال الله (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر: 20]

قال القرطبي: جمًا أي كثيرا، حلاله وحرامه، وَقَالَ سُبحَانَهُ -: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)[العاديات: 8]

أي المال.

وَفي الصَّحِيحَينِ قَالَ – ﷺ -: (لَو كَانَ لابنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِن مَالٍ لابتَغَى ثَالِثًا، وَلا يَملأُ جَوفَ ابنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن تَابَ).

والمال قد يتعاظم في قلب صاحبه حتى يبلغ درجة التقديس، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إنْ أُعطِي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ) رواه البخاري.

 ومعنى تعس عبد الدينار أي الذي يتعلق قلبه بالمال سواء كان ديناراً أو ريالاً أو دولاراً أو غير ذلك، بحيث إنه يكون مسخراً لهذا المال يتفانى في جمعه من غير نظر في طرق تحصيله هل هو من الحلال أو من الحرام.

وقد لا يؤدي حقوق الله -تبارك وتعالى- بهذا المال، فيمنع الزكاة والنفقات الواجبة فضلاً عن المستحبة، فإذا كان الإنسان يفعل كل ما لا يليق من أجل تحصيل المال والفاظ عليه فإنه يكون بهذه الحال عبداً للدينار والدرهم، فهو وإن لم يركع للدينار ويسجد، لكنه في الواقع قد عبّد قلبه ونفسه و جوارحه له، فحياته مسخرة من أجل كسبه، فالعبودية هنا عبودية القلب.

والقطيفة والخميصة هي أنواع من الثياب، و كما قال القرطبي -رحمه الله: من الناس من ترتبط همته وترتفع بثوب يلبسه أو بمركب يركبه، فالمرأة -مثلاً- حينما تستعبدها الأزياء، ويتعلق قلبها بها، وتبقى مشغولة تتبع آخر الصيحات والموضات، وتسخر كل ما عندها من أموال وأوقات وتفكير في الأزياء، بغض النظر عما إذا كانت ترضي الله أو لا.

وهكذا فإن هناك على هذا المفهوم عبد السيارات، وعبد الأراضي والعقارات، وهكذا.

والمصيبة أن هذا المال قد لا ينفعه في الآخرة على الإطلاق بل بالعكس قد يكونوا وبال عليه وسببًا في تثقيل حسابه وطول مدته يوم القيامة مصداقًا لقول رسول الله- ﷺ- قال: (فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمس مائة سنة). رواه الترمذي.

وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من الاستكثار من النعم والانشغال والالتهاء بها، فقال سبحانه في أول آيات سورة التكاثر معاتبا عباده ومحذرا لهم: (ألهاكم التكاثر)، فعلى كل إنسان أن يقرأ هذه السورة ليحاسب نفسه، ويسألها بصدق: هل ألهاكي التكاثر؟