مواقف الصحابة والصالحين مع الإخلاص لله

مواقف الصحابة والصالحين مع الإخلاص لله
كان أبوبكر الصديق رضي الله عنه، يشتري العبيد الضعفاء الفقراء في بدء الدعوة الإسلامية لإعتاقهم، فقال له أبوه أبو قحافة، وكان ما زال مشركا، قال له: يا بني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك أعتقت رجال جلدًا يمنعونك، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: يا أبتي، إنما أبتغي وجه الله عز وجل. . هذه حقيقة الإخلاص، فأنزل الله قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17]
وعلى هذا سارت حياة الصحابة الكرام والتابعين بإحسان، فكان الفُضيل بن عياض إذا قرأ قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد: 31]، يبكي ويرددها ويقول: "إنك إن بلوتَنا، فضحتَنا وهَتَكْتَ أستارنا!"، وكان يقول: "لا تهتموا لقلة العمل، واهتموا للقَبول"، وكان معروف الكرخي يضرِب نفسه ويقول: "يا نفسُ، أَخْلِصي تتخلصي"، وهكذا كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم لا يرون لأنفسهم عملًا، ولا يظنُّون أنهم يبلغون الإخلاصَ يومًا، وكانوا يرونه أشدَّ شيء عليهم، وأبعدَ شيء عنهم.
كان ذلك حال الصحابة والصالحين مع الإخلاص لله تعالى، والسطور التالية نتوقف فيها عند بعض يسير من تلك المواقف:

وليمة عمر:


دعي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى وليمةٍ، فلما أكل وخرج قال: وددت أني لم أحضر هذا الطعام، قيل له: لم يا أمير المؤمنين؟ قال: إني أظن صاحبكم لم يعمله إلا رياءً. [موسوعة ابن أبي الدنيا 1/ 182].

 إخلاص عكرمة ينجيه:


لما فتح النبيﷺ مكة ففر إلى اليمن، ثم ركب سفينة في البحر كما في حديث سعد بن أبي وقاص فأصابتهم عاصفة، فقال أصحاب السفينة: "أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك عليّ عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً ﷺ حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوًّا كريماً"، فجاء فأسلم[رواه مسلم]

 اختفاء أويس القرني:


أوصى النبيﷺعمر بن الخطاب أن يطلب من أويس القرني، رضي الله عنهما، أن يدعو له، وأخبره أنه يأتي في أمداد اليمن، وذكر له صفته، فكان عمر يترقب ويتحرى حتى عثر عليه، فكلمه، وسأله حتى استيقن أنه هو فطلب منه أن يدعو له، ثم بعدها اختفى أويس فلم يُعرف له أثر بعد ذلك[كتاب مسلم، فضائل الصحابة، أويس القرني]، وقد اختفى لشدة إخلاصه لما انكشف أمره خشي أن يتعلق الناس به، وأن يثنوا عليه ويطروه، وأن يتتبعوا آثاره يطلبون منه الدعاء، أو يطلبون منه أن يستغفر لهم، وما إلى ذلك، فاختفى في أجناد المسلمين وخرج غازياً في سبيل الله، ولم يوقف عليه بعدها، ومع ذلك كان أويس يقول: "لن تعالج شيئًا أشد عليك منها"، يعني النية.

 صدق الله فصدقه الله:


رفض أحد الأعراب من حديثي العهد بالإسلام أن يحظى بنصيبه من السبي عن غزوة خاضها مع النبيﷺ، وقال أنا لم أدخل معك في الإسلام إلا لأُقْتل في سبيل الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: "إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ" فلبثوا قليلا، ثم نهضوا في قتال العدو، في غزوة ثانية، فأتي به النبي صل الله عليه وسلم يُحمل، وهو مقتول شهيد رضي الله عنه وأرضاه، الأعرابي قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صل الله عليه وسلم: "أَهُوَ هُوَ؟ قالوا: نعم.قال: "صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ اللَّهُ" ثم كفنه النبي صل الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه، فصلى عليه فكان فيما ظهر من صلاته:"اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ" ..

 ميراث سعد بن أبي وقاص:


زار النبي ﷺ الصحابي سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة - رضي الله عنهم – وكان يعاني وجعا شديدا، فقال سعد للنبيﷺ: يا رسول الله! إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» ، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ فقال: «لا» ، قلت: فالثلث يا رسول الله؟ قال: «الثلث،والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك» ، قال: فقلت: يا رسول الله، أخلف بعد أصحابي؟ قال: «إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم » . يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة.

 الغار ينفتح بسبب الإخلاص:


سمع عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قصة ثلاثة نفر من الأقوام السابقين، آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فتذكر الأول رعايته لأبويه الشيخين حتى أنه يقف باللبن الذي حلبه على بابهما حتى يفيقا مع شدة حاجة أبنائه إليه وفقره، وتذكر الثاني تورعه عن إتيان الفاحشة مع ابنة عمه رغم إيقاعه بها لما ذكرته بالله، وتذكر الثالث أن كان عنده أجراء، كلهم أخذ نصيبه إلا رجل انصرف ولم يأخذه، فنمى وتكاثر وأصبح ثروة، فلما جاء يطلبه منحه الرجل كل تلك الثروة التي نمت ولم يترك لنفسه شيئا، وهنا انفرجت الصخرة ونجا الثلاثة، بفضل إخلاصهم لله.

 مخافة الله:


مات سفيان الثوري عندي، فلم اشتد به جعل يبكي، فقال له رجل: يا أبا عبد الله، ما أراك كثير الذنوب؟ فرفع سفيان شيئًا من الأرض، فقال: والله لذنوبي أهون عندي من ذا، إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت.
الإمام ابن الجوزي يبكي عند الموت فيقول له تلاميذه: يا إمام ألست قد فعلت كذا وكذا؟ فقال: والله إنني أخشى أن أكون فرطت ونافقت فيحق عليَّ قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ *وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الزمر: 47 - 48]

وصف لإخلاص الصحابة:


صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر، ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح، وقد علاه كآبة، فقال: لقد رأيت أصحاب محمد فلم أر اليوم شيئا يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثًا، صفرًا، غبرًا، بين أعينهم أمثال رُكب المعزى، وقد باتوا لله سجدًا وقيامًا، يتلون كتاب الله، فإذا أصبحوا ذكروا الله، وتمادوا كما تميد الشجرة في يوم الريح، وهملت أعينهم بالدموع حتى تبل ثيابهم، والله لكأني بالقوم قد باتوا غافلين، ثم قام فما رُئى بعد ذلك ضاحكا حتى كان مقتله، - رضي الله عنه - وأرضاه.

 الفاروق يخاف:


ذات يوم قرأ عمر بن عبد العزيز قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] فبكى بكًاء شديدًا حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة، فجلست تبكي لبكائه، وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحالة يبكون، فقال: يا أبتاه ... ما يبكيك؟ قال: خير يا بني، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أنْ أهلك، والله يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار.

 إخفاء الصالحون للعمل الصالح:


قال الأعمش: كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقـرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل فغطّى المصحف، وقال: لا يراني هذا أني أقرأ فيه كل ساعة.

 الخوف من الحمد:


كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم (يقصد كتبه) ولا ينسب إلي شيء منه أبداً، فأؤجر عليه ولا يحمدوني.

 إخفاء العبادة:


عن محمد بن واسع قال: "لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة وقد بلَّ ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي جنبه".
كان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصباح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة.
وكان لعمر بن عبد العزيز درَّاعة من شعر وغل، وكان له بيت في جوف بيت يصلي فيه، لا يدخل فيه أحد، فإذا كان في آخر الليل؛ فتح ذلك السفط، ولبس تلك الدرَّاعة، ووضع الغل في عنقه، فلا يزال يناجي ربه ويبكي، حتى يطلع الفجر!
وكان علي بن الحسين (زين العابدين) يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل، فيتصدق به، ويقول: «إنَّ صدقة السر تطفئ غضب الرَّب عزَّ وجلَّ».
وبعد معرفة مواقفه فهذا سرد لبعض أقوال الصالحين في الموضوع التالي