أحوال الخوف ومقاماته عند أهل الإيمان

أحوال الخوف ومقاماته عند أهل الإيمان

تعددت الآيات الدالة على خوف المؤمنين في القرآن، وامتدح الله ذلك العمل القلبي منهم، فهو علامة الإيمان بالله سبحانه، ومخافة غضبه وعذابه والتسليم بقدرته وتقواه، قال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون:57-61] .

كما قال الله عنهم::}أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }[الإسراء: 57]

يقول ابن القيم: فَالْخَوْفُ من الله لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْخَشْيَةُ لِلْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ، وَالْهَيْبَةُ لِلْمُحِبِّينَ، وَالْإِجْلَالُ لِلْمُقَرَّبِينَ، فالأولى اضطراب في القلب لتوقع مكروه، والثاني خوف مقرون بالعلم، والثالثة حالة تمزج الخوف بالمحبة والتعظيم لله، والأخيرة هي هو التعظيم الخالص المقرون بالحب

ولخوف المؤمنين أحوال، من أهمها الخوف من عذاب النار، الخوف من الخاتمة، الخوف من الله وخشيته عند العلماء لمعرفة قدرته على المخلوقات، وهي التي يسميها ابن القيم بدرجات الخوف[مدارج السالكين: بتصرف]

(الخوف الواجب من العقوبة (خوف الوعي 
                    

وهو علامة صحة الإيمان وهو خوف المؤمنين من وعيد الله وتذكرهم لجنايتهم في حق أنفسهم وتخوفهم من عاقبة ذلك في الآخرة.

وصاحب هذه الدرجة يمتنع عن المحرمات ويأتي الطاعات، وعنه يقول ابن مسعود w: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا". [رواه البخاري].

ويقول الله: { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ }[الرعد: 21]،

وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، إِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[ رواه ابن حبان، وحسنه الألباني]

ومنبع هذا الخوف الإيمان بالجنة والنار والثواب والعقاب، وهذا الخوف يزيد بالتفكر في الذنب وعاقبته، ويضعف بضعف الإيمان بالجنة والنار، كما يضعف بالغفلة أيضاً.

وقد صلى رسول الله بالناس بعد خسوف الشمس، وقام فيهم يخطب فكان من حديثه صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلمُ لبكيتم كثيرًا، ولضحِكتم قليلًا " [رواه مسلم] أي لو تعلمون ما ينتظر الناس من حساب.

وكان الصالحون يخشون مصيرهم، وكان أبو بكر   أفضل رجل في هذه الأمة بعد رسول الله نظر إلى طير وقع على شجرة فقال: ما أنعمك يا طير، تأكل وتشرب وليس عليك حساب وتطير ليتني كنت مثلك، وكان   كثير البكاء وكان يمسك لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد) وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله.

(خوف الإنسان من سوء الخاتمة (خوف المراقبة 

والمقصد من ذلك ألا يغتر المؤمن بحاله فيأمن، فبقيام الخوف لا يغتر المؤمن وبغياب الخوف يأمن الإنسان، فيحل الإعراض محل الإقبال، وتحل الوحشة محل الأنس، ويحل البعد محل القرب.والعياذ بالله

فكم من مغبوط بحاله انعكس عليه الحال، ورجع من حسن المعاملة إلى قبيح الأعمال، فأصبح يقلّب كفّيه ويضرب باليمين على الشّمال؟ بينما بدر أحواله مستنيرا في ليالي التّمام، إذ أصابه الكسوف فدخل في الظّلام، فبدّل بالأنس وحشة، وبالحضور غيبة، وبالإقبال إعراضا، وبالتّقريب إبعادا، وبالجمع تفرقة، كما قيل:

أحسنت ظنّك بالأيّام إذ حسنت... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك اللّيالي فاغتررت بها... وعند صفو اللّيالي يحدث الكدر.

كان أكثر دعاء النبي "يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك"، قالَت أم سلمة t : فقُلتُ : يا رسولَ اللَّهِ ما أكثرُ دعاءكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبيعلى دينِكَ ؟ قالَ : يا أمَّ سلمةَ إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ ، فمَن شاءَ أقامَ ، ومن شاءَ أزاغَ  "[رواه الترمذي]

عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ، حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ".[رواه البخاري] فلماذا الأمان من سوء الخاتمة؟!

وقال سهل التستري "خوف الصدِّيقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة، وعند كل حركة، وهم الذين وصفَهم الله - تعالى - إذ قال: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [المؤمنون: 60]"[الغزالي- إحياء علوم الدين: 3/272]

وهذا سفيان الثوري رحمه الله كان يكثر البكاء فقيل له: يا أبا عبد الله بكاؤك هذا خوفا من الذنوب، فأخذ سفيان تبناً وقال: والله للذنوب أهون على الله من هذا ولكن أخاف أن أسلب التوحيد. وهذا أبو هريرة كان يقول في آخر حياته: (اللهم إني أعوذ بك أن أزني أو أعمل كبيرة في الإسلام)، فقال له بعض أصحابه: يا أبا هريرة ومثلك يقول هذا أو يخافه وقد بلغت من السن ما بلغت وانقطعت عنك الشهوات، وقد شافهت النبي e وبايعته وأخذت عنه، قال: (ويحك، وما يؤمنني وإبليس حي).

(خشية العارفين من الله (خوف المهبة والإجلال

يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، فكلما زاد العبد علما بالله زاد له إجلالا، وخوفه يصبح خوف المقربين وهو أرقى من خوف العوام الذي يقتصر على الخوف من عذاب النار، لكن العارفين بالله  العالمين به والمحبين له يخشون قدرته عليهم الشاملة، فيخافون من عذابه ويخافون من سوء الخاتمة ويخشون قدرته وقوته وهيمته سبحانه ويجلونه ويرهبونه.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « أَلِظُّوا بِـ : "يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ" »[رواه الترمذي] (أي أكثروا ذكرها)

وقال النبي: «رَبِّ اجْعَلْنِى لَكَ شَكَّاراً؛ لَكَ ذَكَّاراً؛ لَكَ رَهَّاباً» [رواه الترمذي]

وأكثر ما تكون الهيبة أوقات المناجاة، وهو وقت تملّق العبد ربّه، وتضرّعه بين يديه، واستعطافه، والثّناء عليه بآلائه وأسمائه وأوصافه، أو مناجاته بكلامه، هذا هو مراد القوم بالمناجاة.

يقول الله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] فالذي يخاف الله، يترك كل شهوة في غير رضاه وإن صعب ذلك عليه لأنه أهون عليه من أن يطلع الله على قلبه فيجده منشغلا بغيره.

 لذلك ترى خوف عمر بن الخطاب من ذات الله في كتاب فضائل الصحابة " يروى أنه لما حضرت وفاته قال لابنه عبد الله ورأسه في حجره: ضع خدي في الأرض، فقال: يا أبتاه: إن خدك من الأرض لقريب، فهو على فخذ ابن عمر فقال: ضع خدي بالأرض لا أم لك، فوضع خده بالأرض، ثم قال: ويل لـ عمر، ويل لـ عمر، وفي رواية أخرى قال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي، وقال: ويل لـ عمر إن لم يغفر الله له ثلاث مرات"، فهذا حال الفاروق هذا عمر صاحب رسول الله ووزيره وخليفة المسلمين w هذا عمر أحد العشرة المبشرين بالجنة. خائف من لقاء ربه. وهذا لتمام حضوره مع الله ولعظم مقام ربه في قلبه، فكيف ينبغي أن يكون خوفنا نحن؟!.