بين حجم الدنيا وحجم الآخرة

بين حجم الدنيا وحجم الآخرة

بيان حقيقة حجم وأهمية الدنيا والآخرة

هناك علاقة وثيقة وطردية بين الحجم والأهمية فكلما ازدادت أهمية الشئ زاد الحجم المعطى له والعكس صحيح فإذا كان هناك ثمة ما يشغل حيزا كبيرا في الحياة فلابد أن تعطى له أهمية تعادل هذا الحجم ولو أسقطنا هذه الفكرة على الدنيا والآخرة وعقدنا مقارنة بسيطة لحجم كل منهما فإحداها وهي الدنيا لا يمكن أن تتجاوز مائة عام إلا في أحوال غاية في الندرة ومعظمنا لا يمتلك فيها إلا مابين ستين وسبعين سنة وأخرى خالدة أبدية فهل هناك إمكانية لمقارنة الحجم بين الاثنتين؟!ويترتب على ذلك سؤال بدهي ألا وهو هل يمكننا حقا أن نقارن بين أهمية الدنيا وأهمية الآخرة إلا في سياق أن الدنيا مزرعة الآخرة.
ولو تأملنا قوله صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرةٍ ثم راح وتركها) رواه الترمذي..إنها مرحلة صغيرة الحجم كحجم شجرة في تلك الرحلة الطويلة لا يمكن الاستفادة منها إلا بالتنعم بظلها ساعة ثم نستكمل المسير.

معنى إعطاء الدنيا حجمها

على الرغم من صغر حجم هذه الدنيا إلا أن هذا الحجم الصغير يحدد بشكل قاطع المستقبل الأبدي للإنسان لذلك لا يعني أن نعطي هذه الدنيا حجمها أن نستهين بها أو حتى نزهد فيها لسبب بالغ البساطة إنها ـ أي الدنيا ـ مزرعة الآخرة.
إذن ما معنى أن نعطي الدنيا حجمها؟
معناه ألا ننشغل بها أكثر من اللازم نكتفي منها بالقدر الذي نحتاجه والذي يعيننا أن نستكمل تلك الرحلة الطويلة محترمين تلك القوانين الإلهية التي وضعها رب العالمين لهذه الدنيا ولقدرتنا البشرية على التعامل معها (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ) [طه 117- 119]
إنها حاجات الإنسان الأساسية الزواج والسكن..الطعام والشراب..الملبس..الوقاية من الحر والبرد لابد للإنسان أن يسعى من أجل هذه الحاجات في حدود القناعة لأنه لن يصل أبدا لمرحلة الإشباع الكامل ودائما سيلهيه التكاثر لذلك فعليه أن يأخذ حاجته برضا وقناعة حتى يستطيع الالتفات للحياة الأخرى الباقية.

معينات على إعطاء الدنيا حجمها وحقيقتها

معرفة حقيقة الدنيا أكبر معين على إعطاءها حجمها الحقيقي فسميت الدنيا هكذا من الدنو أي القرب سميت بذلك لسبقها للأخرى، وقيل سميت دنيا لدنوها إلى الزوال وهذا المعنى أدق ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [التوبة: 38] ﴿وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ﴾[الرعد:26]
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:201]
معرفة هذه الحقائق والإيمان بها واستحضارها كثيرا كفيل بوضع الدنيا في حجمها الحقيقي
يكفي في هذا الصدد تذكر الموت ـ الذي لا يحتاج إلى تذكير فهو محيط بنا نراه كل يوم ـ فحقا كفى بالموت واعظا وماذا يأخذ الميت معه من ذلك المتاع الكثيف الذي كان يحيط نفسه به..لاشئ..لا مال ولا ثروة ولا عقارات ولا طعام ولا شراب..يختفي كل شئ ولا يتبقى معه إلا عمله صالحا كان أو فاسدا.

حجم الآخرة في النفوس

الإنسان الكيس وحده من يستطيع منح الآخرة الحجم الذي تستحقه بحيث تكون حاضرة دائما في خاطره وفكره وقلبه فهو بين الوجل منها والاستعداد لها وهذا ما فعله السلف الصالح ولا أقول الصحابة يمكن بتأملها قليلا ادراك حجم الأخرة لديهم
فهذا صفوان بن سليم لو قيل له: إن القيامة غداً ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة.
وكذا منصور بن المعتمر - رحمه الله - لو قيل له: إن ملك الموت على الباب ما كان عنده زيادة في العمل، فقد كان يصلي من طلوع الشمس إلى أن يصلي العصر، ثم يجلس يسبح في مصلاه إلى المغرب.
وهذا عبد الرحمن بن أبي أنعم البجلي لو قيل له: إن ملك الموت قد توجه إليك ما كان عنده زيادة في العمل،
وهذا ابن أبي ذئب قرين الإمام مالك - رحمه الله - من علماء المدينة، كان يصلي ليله أجمع، ويجتهد في العبادة، ولو قيل له: إن القيامة تقوم غداً ما كان فيه مزيد من الاجتهاد.
وهكذا حماد بن سلمة - رحمه الله - لو قيل له: إنك تموت غداً ما قدر على أن يزيد شيئاً على عمله، يقول الذهبي - رحمه الله - معلقاً على ذلك:"كانت أوقاته معمورة بالتعبد، والأوراد".
إن أوقاتهم مشغولة بالعبادات حتى إن سليمان التيمي - رحمه الله - وهو من كبار أئمة التابعين، ومن عُبَّادهم يصفه حماد بن سلمة - رحمه الله - فيقول: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئاً، أو عائداً، أو مشيعاً لجنازة، أو قاعداً في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يُحسن يعصي الله.