تغير المفاهيم الشرعية وأثره على الدنيا والآخرة

تغير المفاهيم الشرعية وأثره على الدنيا والآخرة.

هناك فرق شاسع بين المفاهيم التي لدى المؤمنين المبصرين وبين الغافلين اللاهين، فالمؤمن يدرك لماذا خلق؟، وإلى أين المصير؟، وما الهدف والوظائف التي يقوم بها في هذه الحياة؟، وما وزن الحياة الدنيا ومتعها؟ وما وزن الآخرة ونعيمها؟، وكيف يتعامل مع مواقف الحزن والسرور، وكيف يقيم الأمور، لأنه يبصر بنور من الله.

أما من حرم من نور الهدى والوحي، فإنه يعيش متخبطًا في أهدافه وحياته مهما بدت مستقرة وهادئة في الظاهر، فهو لا يعرف هدفه في الوجود، ويعاني من غياب المفاهيم الأساسية في نظرته للحياة (ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور)  [النور:40]

الدنيا ليست آخر المطاف فالآخرة هي الحياة الأبدية

فالمسلم يعرف أن الدنيا ليست آخر المطاف، ويعطيها وزنها مقارنة بالدنيا قال رسول الله : (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع؟)رواه مسلم، أي أنك إذا أردت أن تعرف حقيقة الدنيا بالنسبة للآخرة، فضع إصبعك في البحر، ثم ارفعها، ثم انظر بماذا ترجع؟! لا ترجع بشيء، مقارنة بالبحر، وهذا معنى الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالأصبع إلى باقي البحر.

فالدنيا في حس المسلم ليست آخر المطاف بل هي مجرد ممر ومرحلة يؤدي إلى الآخرة، التي يعيش فيها الإنسان إلى ما لا نهاية، لذلك قال الله تعالى: (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)[التوبة:38] ، فجميع ما أوتيه الخلق من نعيم الدنيا وملذاتها، يتمتع بها العبد وقتاً قصيراً-مهما طال عمره-، ثم يزول ذلك ويذهب إلى الآخرة حيث النعيم المقيم المستمر للطائعين، والعيش الهني، والقصور والسرور وهو (خير وأبقى) في صفته وكميته، وهو دائم أبدًا.

لذا تجد المؤمن بالله وباليوم الآخرة يسير على صراط مستقيم، ويعلم أن وعد الله حق ويعطي كل شيء قدره ولا تغره الحياة الدنيا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[فاطر:5]، أما الذين لا يؤمنون بالآخرة ويعتقدون أنها نهاية المطاف فقد زينت لهم أعمالهم (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [النمل:4]، وهم عن الصراط المستقيم مائلون منحرفون (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ)[المؤمنون:74] ولذا تتخبط حياتهم وتتيه وتشقى.

فالآخرة هي الحياة الأبدية التي يستقر فيها البشر كما قال تعالى (إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)[غافر:39] فالحياة (متاع) قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب وتزول وتضمحل، (وإن الآخرة هي دار القرار) أي الدار التي لا زوال لها، ولا انتقال منها ولا سفر عنها إلى غيرها، بل إما نعيم مقيم نسأل الله من فضله وإما جحيم أبدي والعياذ بالله.

وهي الحياة الكاملة التي لا تعتريها النقائص الدنيوية التي تكدر من سعادة البشر، فالسعادة التامة لا تكون إلا في الآخرة كما قال تعالى (وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت:64]

 قال الشيخ السعدى في تفسيره: الدار الآخرة دار (الحيوان) أي: الحياة الكاملة، التي من لوازمها، أن تكون أبدان أهلها في غاية القوة، وقواهم في غاية الشدة، لأنها أبدان وقوى خلقت للحياة، وأن يكون موجودا فيها كل ما تكمل به الحياة، وتتم به اللذات، من مفرحات القلوب، وشهوات الأبدان، من المآكل، والمشارب، والمناكح، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) لما آثروا الدنيا على الآخرة، ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان، ورغبوا في دار اللهو واللعب، فدل ذلك على أن الذين يعلمون، لا بد أن يؤثروا الآخرة على الدنيا، لما يعلمونه من حالة الدارين.

لم يخلق الله الخلق والدنيا عبثاً

من صفات الله تعالى " الحكمة "، والحكيم لا يخلق شيئاً عبثاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما يخلق لِحِكَمٍ بالغة عظيمة، عَلِمَها من عَلِمها، وجَهِلها من جهلها، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه الكريم، فبيَّن أنه لم يخلق البشر عبثاً، ولم يخلق السموات والأرض عبثاً، حيث قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)[سورة المؤمنون:115-116 ]أي أظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا حكمة لنا، (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) أي: لا تعودون في الدار الآخرة، كما قال: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)[ سورة القيامة:36 ] يعني هملاً، وهو استفهام غرضه النفي.

قال الشيخ السعدي في تفسيره: من المعلوم عند عقلاء الناس أن الذي يصنع الشيء هو أدرى بالحكمة منه من غيره، ولله المثل الأعلى فإنه هو الذي خلق البشر، وهو أعلم بالحكمة من خلقه للناس، وهذا لا يجادل فيه أحد في أمور الدنيا، ثم إن الناس كلهم يجزمون أن أعضاءهم خُلقت لحكمة، فهذه العين للنظر، وهذه الأذن للسمع، وهكذا، أفيُعقل أن تكون أعضاؤه مخلوقةً لحكمة، ويكون هو بذاته مخلوقاً عبثاً؟! أو أنه لا يرضى أن يستجيب لمن خلقه عندما يخبره بالحكمة من خلقه؟!

وقد بيَّن الله تعالى أنه خلق السموات والأرض، والحياة والموت للابتلاء والاختبار، ليبتلي الناس , مَنْ يطيعه ليثيبه، ومَنْ يعصيه ليعاقبه، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)[هود: 7] ، وقال عز وجل: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك: 2 ] 

فالدنيا دار اختبار والله ما خلق الإنس والجن إلا ليعبدوه ليكافئهم في النهاية بجنته ونعيمه، وفي المقابل يعاقب من يتكبر عن الخضوع له ويستهتر بعبادته، فالخلق ما خلقوا إلا لعبادة الخالق، وهذا هو هدف وجودهم.

ليست الدنيا عذاب ولا منتهى اللذة

جعل الله الدنيا مليئة بالشهوات والمتع والزينة ومليئة بالكبد والمشقة والآلام أيضًا، وجعل حياة البشر فيها مداولة بين السراء والضراء، فلا حياة بدون الاثنين، هذه هي طبيعة الدنيا، فهي جبلت الكدر ولا لذة ولا متعة فيه إلا ممزوجة بكدر، ومع أن الله أخبرنا أنه زين لنا شهوات الدنيا فقال تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[آل عمران:14] ، فقد أخبرنا أيضاً أنه جعل الإنسان يكابد في هذه الدنيا فقال تعالى (لقد خلقنا الإنسان في كبد)[البلد:4] ، في كبد أي ما يكابده ويقاسيه من الشدائد في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم يقوم الأشهاد، وتشابه الأسماء بين الدنيا والآخرة هو لتقريب الأفهام وإلا ففاكهة الدنيا ونخلها ورمانها مختلف عن فاكهة الجنة ونخلها ورمانها كما قال ابن عباس رضي الله عنه (ليس في الجنَّة شيءٌ ممَّا في الدُّنيا إلا الأسماء) رواه البيهقي

ولذا من أرادها متعة صافية فهو يطلب مستحيل فهي طبعت على كدر ومن تصورها نصب ونكد بلا متعة فتصوره مخالف للواقع، كما قال علي بن محمد التهامي:

حكمُ المنيَّة في البريَّة جارِ

ما هذه الدنيا بدار قرارِ

بينا يُرى الانسانُ فيها مخبراً

حتى يُرى خبراً من الاخبار

طُبعت على كدرٍ وأنت تريدُها

صفواً من الأقذاء والأكدار

ومكلّف الأيَّامٍ ضدَّ طباعها

متطلّبٌ في الماءِ جذوة نار

فلا ينبغي للعاقل أن يكلف الحياة والأيام ضد طباعها، بل عليه أن يتعامل معها كما خلقها ربها وللحكمة التي خلقها.

ولذا تجد أن اللذة في الدنيا مرتبطة بالألم ارتباطًا وثيقًا، فالطعام يكون في ألذ حالاته إن سبقه ألم الجوع، والنوم هو ألذ ما يكون في حالة التعب والإرهاق، وهكذا فالشهوات الدنيوية عبارة عن شعور بالحرمان من افتقاد شئ معين، وتنبع اللذة من إزالة هذا الحرمان، وتتوقف بمجرد إشباعه، فبعد الوصول لمرحلة الشبع يمل الشخص من الطعام، وهكذا في كل الشهوات.

وهذا هو الفرق بين نعيمي الدنيا والآخرة، ففي الجنة التي أُعدت للمتقين يستمتع الإنسان بالطعام الشهي من غير جوع، ويستمتع باللذات كلها استمتاعًا متواصلًا.

والله عز وجل جعل في الدنيا نماذج مصغرة للذات والآلام؛ فالنار موجودة في الدنيا، ولكنها ليست مثل نار الآخرة، لكنها في النهاية نموذج مصغر لها، كما قال الله تعالى (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ)[الواقعة:73]، قال مجاهد وقتادة: أي تذكر النار الكبرى.

ويذكر عن عبدالله بن مسعود أنه مر على الحدادين وقد أخرجوا حديدا من النار فقام ينظر إليه وبكي، وكان عمر الفاروق توقد له نار في بيته فيدني يديه منها ثم يقول: يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر! لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف

ونفس الكلام ينطبق على نعيم الجنة فعندما يقول الله إن في الجنة فاكهة ولحم شهي، فإن النفس تستطيع إدراك معنى الكلام بناء على ما تعرفه في الدنيا برغم الفارق الشاسع بين فاكهة الدنيا مثلاً وفاكهة الجنة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء"  رواه ابن عساكر، وصححه الألباني في صحيح الجامع، فكل ما في الدنيا من الأنهار والسرر والفرش والأكواب، مخالف لما في الجنة مما أعده الله سبحانه وتعالى.

 ففي الدنيا بناء وفي الجنة بناء، لكن شتان ما بين البناءين، فقد قال النبي - : «الجنة بناؤها لبنة من فضه، ولبنة من ذهب، وملاطها المسك الأذفر - شديد الرائحة-، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران» رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني، وقال الله عز وجل (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)[الصف من الآية:12] 

وهكذا فإن نعيم وعذاب الدنيا يكاد لا يذكر في حجمه وصفته ووقته مقارنةً بنعيم أو عذاب الآخرة

والمسلم اللبيب يتمتع بمتع الدنيا ولو كان فيها كدر وقلبه معلق بمتع الجنة الخالصة (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[الأعراف:32] ، فيستمتع في الدنيا ويسعد ثم يسعد ويفوز في الآخرة وذلك هو الفوز العظيم.

الحساب في الآخرة من رب غفور رحيم ذو عذاب أليم

ذكر الله العذاب مقرونًا بالرحمة في كتابه الكريم في مواضع كثيرة؛ منها قول الله قوله تعالى:)ٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[المائدة: 98]، وقوله تعالى: (نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلألِيمُ)[الحجر: 49، 50]

وجعل الله الجمع بين الخوف والرجاء في آن واحد من صفات عباده المتقين فقال- جلَّ جلاله:( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ٱلألْبَابِ)[الزمر: 9].

فالله سبحانه وتعالى برغم رحمته الواسعة، إلا أن عذابه شديد أليم وقد أعده لمن استهان بطرق الرحمة، وأصر على عصيان الله، وارتكاب الموبقات، ومع ذلك غلّب الله جانب الرحمة، وفتح لعباده فرصًا لا تحصى للمغفرة والعفو، فعن أبي هريرة أن النبي e قال لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش (إن رحمتي تغلب غضبي) رواه مسلم

فإذا نسي الإنسان أنه يتعامل مع رب رحيم كريم جواد غفور عفو ستير قنط من رحمة الله وضاقت عليه الدنيا بما رحبت وربما كذب بالله وألحد وعبد غيره، فالعبد لا يستطيع أن يعيش مالم يوقن أن ربه رحيم غفور، وبالمثل إن نسي العبد أن ربه شديد العقاب وأن عذابه أليم وأنه قوي جبار متكبر عدل حسيب يحاسب الناس على ما قدموا غفل ونسي وتكبر وتجبر وظلم ومال وحاد عن الصراط المستقيم بل ربما عبد نفسه أو هواه أو المادة أو أي شيء آخر.

فهو سبحانه عدل يريد منا أن نكون أثر اتزاناً ومعرفة به سبحانه لنعيش في الدنيا حياة هنية وفي الآخرة نفوز فوزاً عظيماً، وإلا فهو سبحانه لا يريد ظلماً للعباد

وما الله يريد ظلماً للعباد

فالله سبحانه وتعالى لا يظلم عباده بل يحاسبهم وفق ميزان عدل دقيق، فهو سبحانه لا يعاقب إلا من يستحق العقوبة بأعماله التي كسبتها يداه، وقد يرحم ويعفو عمن أذنب، ويمنحه فضلاً لم يستحقه بعمله بل بمحض رحمة الله، فمن عوقب بذنوبه فبعدل الله، ومن عُفي عنه فبفضله، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[ يونس:44]

والله سبحانه وتعالى لا يحب أن يعذب عباده، ولا يحب لهم أن يذنبوا بل يحب منهم الاستقامة، قال تعالى (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما)[النساء:147]، أي أنه لا حاجة لله أن يجعلكم في الدرك الأسفل من النار، إن أنتم أنبتم إلى طاعته، وراجعتم العمل بما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه، لأنه لا يجتلب بعذابكم إلى نفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضرا، وإنما عقوبته من عاقب من خلقه، جزاء منه له على جرأته عليه، وعلى خلافه أمره ونهيه ] تفسير الطبري

فالله أراد لنا السعادة في الدنيا والآخرة، وعلمنا الطريق الذي يوصلنا لهذه السعادة وأمرنا بسلوك هذا الطريق وجلاه لنا ووضحه، وجعل الحياة ابتلاء في من يسير على هذا الطريق ومن يختار أن يسير على هواه ويؤثر الحياة الدنيا على الآخرة، ويؤثر هواه على عبادة ربه، ويشتري الرخيص بالنفيس، ويبيع الجنة بمتعة عاجلة، ويترك عبادة ربه لعبادة غيره.